تولوز الزهر والبنفسج... وقليل من البصل!
لم يكن النادل الباريسي يملك إلا أن يبتسم عند سؤاله عن أجمل ما في مدينة تولوز. سؤال بريء، لكنه يذكر بعداوة "الكار" مع المطبخ التولوزي: "في المدينة الزهر كمثل الشال الذي ترتدينه سيدتي، سوف تأكلون جيدا".
هكذا، بدأت الرحلة إلى تولوز مع وعد بأطباق لذيذة ولون زهري، مرده القرميد المستعمل في بناء البيوت القديمة.. أو على الأقل هكذا قيل لنا.
القطار الفرنسي السريع يختصر 590 كيلومترا بين باريس وتولوز بساعات خمس. ساعات يبقى فيها التوق إلى لون خاص، مترافقا مع سؤال عن كيف يمكن لمدينة أن تتلون بالزهر. أن تحوِّل بمجرد لفظ لقبها، كل أبنائها وسكانها إلى أطفال أبديين. أن توحي انها قصر كبير خارج من قصص ذات نهايات سعيدة. كيف للزهر، لون فساتين الساحرات الصغيرات، والبرّاق اللامع على شفاههن النحيلة، وضحكاتهن الرنانة، أن يلتصق بمدينة؟
الجواب بدأ من ساحة الرئيس توماس ويلسون في قلب المدينة، هكذا تقول الخارطة. لكن التباسا ما تحذرك منه يافطة مربعة صغيرة. الحقيقة أن التمثال والحديقة هنا، يعودان إلى الشاعر التولوزي بيار غودولي، شاعر كتب بالأوكستانية وقليلا بالفرنسية. الساحة إذا ساحة مهداة إلى ويلسن، لكن الحديقة لغودولي. والجالسون على المقاعد الخشبية ينظرون إلى تمثال غودولي وليس إلى صورة ويلسون. بين الرئيس الأمريكي والشاعر التولوزي لا مجال للمنافسة هنا! النتيجة محسومة في حال أردت ان تسأل مسنا بدا متأملا لدقائق في حمامة حطت على التمثال أمامه: "لا أقرأ خارطة السياح، أنا هنا لأني أحب تمثال غودولي".
كانت العمارة الدائرية "تحاصرنا". قرميد أحمر، وحديد مطوّع بعناية على الشرفات، و"مصابيح الزيت" صامدة كما لو أنها علقت هنا يوم أمس. لمصابيح "الزيت" هذه قصة أخرى، لا تدركها وانت تقطع ساحة ويلسن، أو عفوا غودولي، المكتظة. فهي طبعا انتقلت إلى عصر الكهرباء، لا بل لها "فضيلة" أكثر تقدمية: فعندما تجتاز الساحة نحو الكابيتول، ربما تكون قد دست على واحدة من أربع عشرة لوحة مثبتة على الرصيف، تخزن طاقة قدميك، لتضيء المصابيح الجميلة ليلا. هو مشروع تولوزي لدعم الطاقات البديلة، مشروع مخبأ بعناية. لأن اللوحات "متنكرة" بهيئة حجارة الرصيف هنا.
أن تفكر أنك أضأت مكانا يوما لأنك عبرت فيه، دغدغة لنرجسية مارة لن يبقوا هنا طويلا ليشهدوا على ليل الساحة.
دقائق قليلة وتصبح في ساحة الكابيتول، حيث الامتداد لخليط العمارة والحديد الأسود والذهبي اللامع. لا زهر هنا أيضا. بل مستطيلات قرميد مكدسة غسلها المطر وانهكتها الأعوام. الاستفسار عن اللون الزهر لم يجد جوابا شافيا له بعد. وحدها أغنية كلود نوغارو، وجدت ربما الاجابة، بعدما توقفت كما زوار تولوز عند كنيسة سان سرنان، التي "تضيء ليلا كوردة مرجان تسقيها الشمس/ ربما لهذا ورغم أحمرك والأسود/ ربما لهذا نسميك المدينة الزهر".
"كونسرفاتوار" البنفسج
باريس بدت بعيدة جدا من هنا. هو بعد لا علاقة له بالجغرافيا. الجغرافيا تحصيل حاصل. هو الهدوء الذي بدا يشبه الملل على وجه العاملين في المكتب السياحي الخالي إلا من حفنة قليلة من الزوار. يتربع البنفسج ومنتجاته هانئا في زاوية خاصة هنا: عسل البنفسج، بطاقات بنفسجية، أحب تولوز بالبنفسجي، شوكولا بالبنفسج. قصة تولوز مع زهر البنفسج قديمة جدا. ولو ان لا أحد يعرف قدمها بالضبط. لكن صيت الوردة التولوزية أصبح ذائعا منتصف القرن العشرين، قبل ان يأتي الشتاء القارس في منتصف الخمسينيات ويزيح الوردة الليلكية، ويدلل المزارعين إلى الخيم البلاستيكية. كان على المدينة أن تنتظر التسعينيات لتعيد بنفسجها إليها. ودأبت على أن تنسب كل شيء إلى هويتها البنفسجية المستعادة، حتى انها رغبت في أن تسمي معهدها الموسيقي "كونسرفاتوار البنفسج".
الايقاع الهادئ ينعكس روية في حياة الناس. مارة لا يمانعون مثلا التوقف مطولا لينصحوك بأن تجرب مطعما اسمه "الحمار الذي يصطاد"!
تبتسم وأنت تفكر أن ما تظنه هدوءا يقارب البطء في المدينة، مرده إلى البنفسجي، أنك قرأت في مكان ما ان ورد البنفسج كان يستعمل لتهدئة الغضب في أثينا. بأية حال، الغضب والتسرّع يصبحان بعيدين جدا، وأنت تتذوق الشوكولا بالبنفسج، تتركه يذوب حلاوة في فمك على مهل، داخل متجر احترف الشوكولا منذ عام ألف وسبعمئة وثمانين، على ذمة البطاقة التي تأتي مع عبوة الشوكولا "المفخخة" بالأطايب. تقول صاحبة المتجر "أصنع الشوكولا بقلبي لا بيديّ". وتتركك تغادر بعد ان تعدك أن أصنافا أخرى تنتظرك في حال عدت لاحقا.
مع تولوز الهادئة نسبيا، يمكن أن تودع المدينة بلا أن تحس انه فاتك الكثير، تستطيع أن تتركها عصرا أو صباحا، لا فرق، المهم أن تلمح ضوء الشمس على "كانال دو ميدي" (أو قناة الظهر). أو أن تتأمل لحظات مياه نهر الغارون التي تغادر المدينة لتلاقي لاحقا ملح البحر المتوسط.
قبل أن تغادر تولوز، تتساءل إن انتبه أصدقاؤك إلى بسمة صغيرة أخرى ارتسمت على شفتيك، وأنت تتناول شريحة لحم بصلصة لم يعجبك مذاقها. لكن لا بأس، تقول في سرك، فأنت في مدينة أرادت أن تساعد أهلها في بداية القرن العشرين، فأنشأت تعاونية أسمتها "تعاونية البنفسج... والبصل".
هكذا، بدأت الرحلة إلى تولوز مع وعد بأطباق لذيذة ولون زهري، مرده القرميد المستعمل في بناء البيوت القديمة.. أو على الأقل هكذا قيل لنا.
القطار الفرنسي السريع يختصر 590 كيلومترا بين باريس وتولوز بساعات خمس. ساعات يبقى فيها التوق إلى لون خاص، مترافقا مع سؤال عن كيف يمكن لمدينة أن تتلون بالزهر. أن تحوِّل بمجرد لفظ لقبها، كل أبنائها وسكانها إلى أطفال أبديين. أن توحي انها قصر كبير خارج من قصص ذات نهايات سعيدة. كيف للزهر، لون فساتين الساحرات الصغيرات، والبرّاق اللامع على شفاههن النحيلة، وضحكاتهن الرنانة، أن يلتصق بمدينة؟
الجواب بدأ من ساحة الرئيس توماس ويلسون في قلب المدينة، هكذا تقول الخارطة. لكن التباسا ما تحذرك منه يافطة مربعة صغيرة. الحقيقة أن التمثال والحديقة هنا، يعودان إلى الشاعر التولوزي بيار غودولي، شاعر كتب بالأوكستانية وقليلا بالفرنسية. الساحة إذا ساحة مهداة إلى ويلسن، لكن الحديقة لغودولي. والجالسون على المقاعد الخشبية ينظرون إلى تمثال غودولي وليس إلى صورة ويلسون. بين الرئيس الأمريكي والشاعر التولوزي لا مجال للمنافسة هنا! النتيجة محسومة في حال أردت ان تسأل مسنا بدا متأملا لدقائق في حمامة حطت على التمثال أمامه: "لا أقرأ خارطة السياح، أنا هنا لأني أحب تمثال غودولي".
كانت العمارة الدائرية "تحاصرنا". قرميد أحمر، وحديد مطوّع بعناية على الشرفات، و"مصابيح الزيت" صامدة كما لو أنها علقت هنا يوم أمس. لمصابيح "الزيت" هذه قصة أخرى، لا تدركها وانت تقطع ساحة ويلسن، أو عفوا غودولي، المكتظة. فهي طبعا انتقلت إلى عصر الكهرباء، لا بل لها "فضيلة" أكثر تقدمية: فعندما تجتاز الساحة نحو الكابيتول، ربما تكون قد دست على واحدة من أربع عشرة لوحة مثبتة على الرصيف، تخزن طاقة قدميك، لتضيء المصابيح الجميلة ليلا. هو مشروع تولوزي لدعم الطاقات البديلة، مشروع مخبأ بعناية. لأن اللوحات "متنكرة" بهيئة حجارة الرصيف هنا.
أن تفكر أنك أضأت مكانا يوما لأنك عبرت فيه، دغدغة لنرجسية مارة لن يبقوا هنا طويلا ليشهدوا على ليل الساحة.
دقائق قليلة وتصبح في ساحة الكابيتول، حيث الامتداد لخليط العمارة والحديد الأسود والذهبي اللامع. لا زهر هنا أيضا. بل مستطيلات قرميد مكدسة غسلها المطر وانهكتها الأعوام. الاستفسار عن اللون الزهر لم يجد جوابا شافيا له بعد. وحدها أغنية كلود نوغارو، وجدت ربما الاجابة، بعدما توقفت كما زوار تولوز عند كنيسة سان سرنان، التي "تضيء ليلا كوردة مرجان تسقيها الشمس/ ربما لهذا ورغم أحمرك والأسود/ ربما لهذا نسميك المدينة الزهر".
"كونسرفاتوار" البنفسج
باريس بدت بعيدة جدا من هنا. هو بعد لا علاقة له بالجغرافيا. الجغرافيا تحصيل حاصل. هو الهدوء الذي بدا يشبه الملل على وجه العاملين في المكتب السياحي الخالي إلا من حفنة قليلة من الزوار. يتربع البنفسج ومنتجاته هانئا في زاوية خاصة هنا: عسل البنفسج، بطاقات بنفسجية، أحب تولوز بالبنفسجي، شوكولا بالبنفسج. قصة تولوز مع زهر البنفسج قديمة جدا. ولو ان لا أحد يعرف قدمها بالضبط. لكن صيت الوردة التولوزية أصبح ذائعا منتصف القرن العشرين، قبل ان يأتي الشتاء القارس في منتصف الخمسينيات ويزيح الوردة الليلكية، ويدلل المزارعين إلى الخيم البلاستيكية. كان على المدينة أن تنتظر التسعينيات لتعيد بنفسجها إليها. ودأبت على أن تنسب كل شيء إلى هويتها البنفسجية المستعادة، حتى انها رغبت في أن تسمي معهدها الموسيقي "كونسرفاتوار البنفسج".
الايقاع الهادئ ينعكس روية في حياة الناس. مارة لا يمانعون مثلا التوقف مطولا لينصحوك بأن تجرب مطعما اسمه "الحمار الذي يصطاد"!
تبتسم وأنت تفكر أن ما تظنه هدوءا يقارب البطء في المدينة، مرده إلى البنفسجي، أنك قرأت في مكان ما ان ورد البنفسج كان يستعمل لتهدئة الغضب في أثينا. بأية حال، الغضب والتسرّع يصبحان بعيدين جدا، وأنت تتذوق الشوكولا بالبنفسج، تتركه يذوب حلاوة في فمك على مهل، داخل متجر احترف الشوكولا منذ عام ألف وسبعمئة وثمانين، على ذمة البطاقة التي تأتي مع عبوة الشوكولا "المفخخة" بالأطايب. تقول صاحبة المتجر "أصنع الشوكولا بقلبي لا بيديّ". وتتركك تغادر بعد ان تعدك أن أصنافا أخرى تنتظرك في حال عدت لاحقا.
مع تولوز الهادئة نسبيا، يمكن أن تودع المدينة بلا أن تحس انه فاتك الكثير، تستطيع أن تتركها عصرا أو صباحا، لا فرق، المهم أن تلمح ضوء الشمس على "كانال دو ميدي" (أو قناة الظهر). أو أن تتأمل لحظات مياه نهر الغارون التي تغادر المدينة لتلاقي لاحقا ملح البحر المتوسط.
قبل أن تغادر تولوز، تتساءل إن انتبه أصدقاؤك إلى بسمة صغيرة أخرى ارتسمت على شفتيك، وأنت تتناول شريحة لحم بصلصة لم يعجبك مذاقها. لكن لا بأس، تقول في سرك، فأنت في مدينة أرادت أن تساعد أهلها في بداية القرن العشرين، فأنشأت تعاونية أسمتها "تعاونية البنفسج... والبصل".
المصدر lifeinparis
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق