انثروبولوجيا || الجزائري وصلتة التاريخية بالقمح

0

في المدة الأخيرة، بعض المنشورات تجرم البسطاء من المواطنين أو العامة او الدهماء كما يحلو للبعض أن يسموهم بما شاءوا من التسميات التي تنم عن نبرة تعالٍ أكثر منها عن تحليل موضوعي، وخاصة إذا صدرت من متخصصين أو مثقفين، وتحملهم مسؤولية كل ندرة في السوق، ورغم ما في تلك المنشورات من بعض الحقيقة، إلا أني أردت أن أكتب بعض الملاحظات العابرة، حول علاقة الجزائري بالسميد أو الدقيق وبالأحرى بالقمح، فهو المصدر الأساس لغذاء الجزائري، فالجزائري لا يتغذى على الأرز ولا اللحم ولا على الخضر والفواكه، بل على دقيق القمح، وتاريخه هو تاريخ العمل على توفير هذه المادة والمحافظة عليها. واستعمالها بطرق شتى، وفي مواقف ووضعيات اجتماعية ومهنية مختلفة.
وكل الأطعمة الجزائرية التقليدية تعتمد على دقيق القمح، من الكسكس (الطعام أو البربوشة) إلى الشخشوخة، الغرايف أو البغرير، الفطاير أو الأخفاف لفطور الصباح، الزفيطي والزراوي والشربة والدشيشة وكذا المُحليات والحلويات، فدقيق القمح هو الغذاء وليس غيره.
ولقد اعتمد الجزائريون على أنفسهم في انتاج مادة القمح وكانت هي الزراعة الأساسية في الجزائر، إن لم تكن الوحيدة في الكثير من الأحيان والمناطق، في التل أو في الصحراء في السنوات المطيرة، ومخازن القمح أو ما يسمي (بالعولة) المتمثلة في القلاع الموجودة في المناطق الجبلية، وبالمطامير في المناطق السهلية وشمال الصحراء، وكذلك دار أو بيت الخزن أو الخزين في المناطق الحضرية، كلها تدل على اهتمام الجزائري بهذه المادة الاستراتيجية، وخوفه من فقدانها، فهي وجوده وحياته. ويسمي الجزائريون منتوج القمح بالنعمة، ويقولون زرع أو حصد النعمة عوض القمح ويقولون عن كسرة القمح نعمة ربي، ويقدسونها ولا يسمحون برميها على الأرض حتى وإن لم تكن صالحة للأكل. لقد اكتسبت هذه المادة قيما اقتصادية واجتماعية وثقافية، وارتبطت بالوجاهة والسلطة والمكانة الاجتماعية في المجتمع الجزائري.
تاريخ طويل من الندرة:
لقد كانت الجزائر في عهد الرومان تُعرف بمطمورة روما، وفي العهد العثماني كانت تُؤكل الجزائريين وجزءا من أوروبا ويكفي أن التاريخ يروي أن أحد أسباب الاستعمار الفرنسي هي ديون القمح التي كانت للجزائر على فرنسا، وفي عهد الاستعمار احتكرت فرنسا زراعة القمح في الجزائر، ولم تترك لهم سوى الفتات، وخاصة في الحربين العالميتين، وفي الأزمات الاقتصادية، والذاكرة الشعبية لازالت تحتفظ
بالأزمة التي ضربت هذه المادة في الحرب العالمية الثانية، وتضاعف ثمنها أربع أو خمس مرات، وحيث لا قمح ولا نقود في تلك الفترة. وفي بداية الاستقلال تحتفظ الذاكرة كذلك ب (عمارة بن بلة) (وهي عبارة عن كيس دقيق تبرعت به الولايات المتحدة الامريكية في بداية الاستقلال في عهد الرئيس بن بلة فربطه الجزائريون بأعلى هرم السلطة، فهو كيس الدقيق الذي جاء منحة من حكومة دولتهم المستقلة) وقد تخلصوا من السلطة الاستعمارية المانعة وحلت محلها السلطة الوطنية المانحة، لتتبدل استراتيجية الجزائري في الحصول على مادة الحياة (دقيق القمح)، وتتغير دورة الإنتاج والاستهلاك، في ظل اقتصاد الدولة الفتية وظهور الوظائف والمهن الجديدة، ويصبح الدقيق معروضا للبيع في كل مكان، وتوفر المخابز الخبز طازجا، لكن ما تلبث الأزمة الاقتصادية في الثمانينات أن تُحدث الندرة من جديد، وتتبعها أزمة التسعينات، ليوزع فيها السميد بالدفتر العائلي، وهكذا يأخذ كل جيل حظه من أزمة الندرة في المادة الأساسية للحياة، لتترسخ في شخصيته كتجربة نفسية وثقافية قاسية.
ثم نأتي بعد كل هذا ونطلب من الناس - الذين يفكرون في معظمهم بطريقة عاطفية، وبناء على تجارب شخصية أو مكتسبات شفاهية من المجتمع والثقافة الشعبية السائدة التي تتغذى من التاريخ الذي ذكرنا- بأن يأمنوا ويثقوا في وفرة السميد، والناس يعرفون ان هذه الأزمة تضرب العالم في اقتصاده، وأن ليس هناك تاريخ محدد لنهايتها، وأن كل الدول تحافظ على منتوجاتها لشعوبها..
وفي الأخير هذا ليس تبريرا لما يحدث، ولكنه محاولة رصد لواقع، واجتهاد في البحث عن مسبباته الموضوعية، وليس هناك حل في المنظور القريب سوى إغراق السوق وإعادة النظر في شبكة توزيع هذه المادة التي غيرتها الإجراءات التي تقوم بها وزارة التجارة في إطار محاربة المضاربة، وعلى المستوى المتوسط والبعيد فلتعمل النخب العلمية، والسلط التنفيذية على تغيير الثقافة والعادات الغذائية والاستهلاكية للإنسان الجزائري، وذلك ممكن جدا إذا ما تخلصنا من العقلية الوعظية الأخلاقية وبحثنا في الأسباب والعوامل الموضوعية وعملنا على تغييرها عن طريق مؤسسات التنشئة الاجتماعية.
د. عبد الرحمان شالة .

لا يوجد تعليقات

أضف تعليق

إحصائيات المدونة

  • عدد المواضيع :

  • عدد التعليقات :

  • عدد المشاهدات :

أرشيف المدونة الإلكترونية

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

التسميات

فنون

تابعنا علي الفيس بوك

سينما

شائع هذا الأسبوع