يسترشد فريدريك معتوق بما يسميه الأمريكي توماس كوهن بالتفكير الدائري "التفكير الدائري هو التفكير الذي يدور ضمن أنموذج إرشادي واحد "وقدرته على الإقناع كبيرة جدا، لدرجة الإلزام"، إذ عندما يتصل الماضي بالحاضر، من دون فواصل نظرية أو فكرية، ويسكن منطق الموروث في الممارسات والخيارات الراهنة، يسترشد الفرد بما عاشه أسلافه كما لو أنه ما زال قائما اليوم" .
إن ماضينا لا يزال مستمرا فينا، ولازالت حياتنا المعاصرة خاضعة لتقييمات الماضي، ولا زالنا نبحث عن حلول لمشاكل حاضرنا فيما أنتجه الأجداد، أي أن تراثنا لا يزال حيا فينا، مما يجعله جزءا من حياتنا اليومية ومن ثقافتنا الشعبية المعيشة، المستمرة والمتغيرة في الآن ذاته، فالتراث لم يتوقف في الماضي، ونحن لم نقم بإعادة تقييم للعلاقة بين ماضينا وحاضرنا.
ومن خلال هذا الموقف ينقسم الناس في مواقفهم من التراث (الذي لا يزال حيا) إلى ثلاثة أصناف؛ قسم متشبث بهذا التراث ومتمسك به يبحث فيه عن كل ما يمكن أن يلبي حاجاته الحاضرة إلى درجة ممارسة الوهم واللامعقول أحيانا ونأخذ أمثلة عن ذلك كتفضيل الطب الشعبي والأطعمة التقليدية والأواني والأفرشة القديمة وغيرها من الأمثلة وهي كثيرة. وقسم نقيض له تماما يرفض كل ذلك التراث باعتباره ميراث تخلف ولا يتناسب مع متطلبات العصر ولا يُلبّي أدنى حاجات الإنسان المعاصر، بل يعتبره معيقا لأن يعيش الإنسان حياته العصرية، وصنف ثالث توفيقي يحاول الجمع بين الماضي والحاضر فيما سمي عند بعض الأوساط الفكرية بالأصالة والمعاصرة، أي محاولة المزج بين التراث والحياة العصرية وما وفره العلم والتكنولوجيا من حلول وتلبية للحاجات الإنسانية، وهذا الصنف الأخير يتصرف بغائية، مدفوعا بنزعة نفعية، ليس له موقف واضح ومحدد من هذا الميراث.
إن هذه المواقف الثلاث لا تقف الموقف العقلاني السليم من التراث، الموقف المشجع على استثمار التراث كمعطى اقتصادي في التنمية، أي كموضوع مفصول عن الذات، مما يؤهله لأن يصبح سلعة (مادة أو خدمة) قابلة للإنتاج والاستهلاك، أي قابلة للتسويق والعرض والطلب، إن الغربيين بفضل ثورتهم الفكرية والقطيعة التي أحدثوها مع الماضي، مكنتهم من بناء موقف وظيفي تجاه تراثهم لخصه صاحب سوسيولوجيا التراث في مجموعة نقاط نذكرها هنا باختصار:
فالإرث الثقافي الذي يبدي الغربي كل الاحترام تجاهه، يعامل لذلك على أساس أنه :
- جزء لا يتجزأ من الماضي.
- لا يشكل أنموذجا يحتذى.
- لا يستدعي سوى الزيارة والاطلاع.
- لا يشكل مرجعية لحلول الحياة اليومية.
إن هذا الموقف من التراث يجعله منفصلا عن ذات الإنسان المعاصر، ليس جزءا من حياته الراهنة ولا مصدرا لتنظيمها، بل ماض جميل ومجيد ومحترم ويستحق الاطلاع والزيارة وتخليد الذكرى. ومن الطبيعي أن الظروف التاريخية والعوامل الثقافية والاجتماعية ليست واحدة في المجتمعات الغربية والشرقية - وإن كان للحضارة الغربية في العصر الحديث سلطتها وسطوتها، التي تؤهلها لفرض نموذجها على البشرية- وبالتأكيد فإن المواقف والسلوكات لن تكون واحدة كذلك، لكن بإمكاننا بناء موقف نفعي ووظيفي من التراث من أجل استثماره، وهنا يأتي دور الدراسات التراثية في علم الإنسان وعلم الاجتماع بصفة خاصة والعلوم الاجتماعية والإنسانية بصفة عامة، للبحث في الثقافة والتراث الشعبي، على اعتبار أن الثقافة الشعبية مرتبطة بحاضر الجماعة وراهنها ويمكن دراستها دراسة تزامنية، ووظيفية مثلما تذهب إليه "نظرية الحاجات "لمالينوفسكي" في كل ثقافة تؤدي كل عادة وكل شيء وكل فكرة وكل معتقد وظيفة حيوية وتضطلع بمهمة ما" ؛ وهذه الدراسات التي يجب أن تتعدى الكلية إلى الدراسات الجزئية المعمّقة، ستمكننا من الفصل بين ما هو تراثي ماضوي وبين ما هو ثقافي راهن، وتحديد العناصر الثقافية التي تستند عليها الخيارات الاقتصادية للجماعة، كعادات الاستهلاك والطعام واللباس وطقوس الاحتفالات والمعتقدات والأفكار التي تحدد نظرة الأفراد للكون والحياة والآخر.
إن البحث في هذه العناصر الثقافية مهم، والأهم هنا البحث في ارتباطاتها بالتراث، وتكون الأذواق وتقييم الأشياء وترتيب الأفعال، والتفريق بين ما هو تراثي ينتمي لماض انتهت بانتهائه وظيفيته، وبين العناصر التي لا زالت وظيفية ومستمرة وبالتالي متغيرة حسب تغير الحياة الاجتماعية.كل ذلك يعتبر أساسيا في بناء أي مشروع نهضوي حضاري.
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق