لا أدري كيف نستيقظ عندما لم نغفُ أصلاً. استيقظت صباحاً بعد ليلةٍ قصيرة بدت أطولَ من عمري كلّه. أدركت أنّ النومَ لن يعيدَ لي رجلي. اتّصلت برقم الطوارئ.
كم أكره الموسيقى التي يستخدمونها للانتظار. حتّى للطوارئ موسيقى انتظار. ردّ عامل الهاتف، سألني باقتضاب عن حالتي، أدرك أنّها طارئة لكن ليست بخطورة ما قد يكون قد طرأ على المتّصلين الآخرين. دعاني للانتظار. أحياناً لا أفهم صيغة التهذيب في الدعوات عندما لا يكون أمامك الخيار. موسيقى مملّة. كأنّ طفلاً يلعب ببيانو الكتروني. موسيقى مزعجة. مرّت خمس دقائق على الأقل. لم أكن مستعجلة، فلا يمكنني فعل أي شيء آخر بأي حال. مستلقية، أطالع السقف، على وقع الموسيقى المزعجة، وصوت السيّدة اللطيفة الذي يذكّرك كل دقيقة أنّك تنتظر على خطّ الطوارئ. وكأنّك قد تسرح في السقف، وتشرد، وتنسى مثلاً لماذا تعذّب نفسك وتستمع لهذه الموسيقى.
عاد إليّ المشخّص لحالتي الطارئة، سألني المزيد من الأسئلة، ليستنتج: "آآآه (بالفرنسية)"، هذه على الأرجح حالة خدر في عرق النسا. "سياتيك إيبرألجيك". طمأنني الاسم ساعتها، وطمأنتني نبرة الـ "آآآآآه"، والتي بدت وكأن ترجمتها في العامّية اللبنانية "ييي ولا شي ولو، ما تعتلي همّ وخليها علينا هالمرّة"، يعني بالعامّية المصرية "أيييوه، ياختي عليكي، دي ولا حاجة، أبلتك الطوارئ هنا وحتحلّ كلّ المسائل".
بعد التشخيص المطمئن، قال لي إنّه سيرسل لي سيارةَ إسعاف تنقلني إلى أقرب غرفة طوارئ! بعض المعاني تضيع فعلاً في الترجمة!
بعد ساعة وصل رجلا الإسعاف، مع كرسي نقّال. الأوّل، خمسيني العمر، والثاني عشريني. الاثنان لطيفان، لكنّ العشريني انهارَ (أقوى وقعاً من انهالَ) عليّ بالحديث عن اللبنانيين.
عندما تقول لفرنسي أنّك لبناني، يجيبك دائماً "أوووه، لبنان، كم أحبّ الطعام اللبناني.. شاورما، حمّص، تبّولة". تاريخنا كلّه (الفينيقي، واللبناني وما بينهما)، ومعمعاتنا السياسية، وحربنا الأهلية، تُختصّر بالحمّص والتبّولة، والشاورما.
ربما لذلك حاربنا بقوّة لتحطيم الأرقام القياسية لأكبر صحن حمّص، وجاطة تبولة.
رجل الاسعاف العشريني، كان يعرف أكثر من ذلك، ولم يتوقّف عن الحديث. ربما هي استراتيجية ليلهيني عن ألمي، أو ربما لأنّه فعلاً مهتم بالشأن اللبناني. المهم، بين التبّولة والوضع الأمني الحالي، فجأة وصلنا إلى صالة الانتظار في غرفة الطوارئ. وجودي هنا في تلك اللحظة، خفّض معدّل العمر لدى المرضى من ثمانين إلى سبعين عاماً. شعرت بالعجز. وشعرت أيضاً بالخجل. أنا الشابّة، أزاحم هؤلاء المسنّين، على مكانٍ في الطوارئ.
لكنّنا كلّنا نمرض، مهما كان عمرنا، وكلنا نحتاج للعناية، هذا ما قاله لي المسعف الخمسيني. ثم أخبرني أنّ حالتي على الأرجح هي عرق النسا، وأن الحل الوحيد هو الكثير من الراحة، والبقاء في الفراش.
عندما جاء دوري، وقّعت على الفاتورة، سلّمني للمرّضة، وتمنّى لي الصحّة والراحة.
أخذتني الممرّضة. معاينة سريعة، تحضير ملف، إسوارة الدخول، في أقل من خمس دقائق، ركَنَتْ سريري في نفق الطوارئ (في الداخل بعد المدخل، وبعد حاجز الممرضة).
وانتظرت.
وانتظرت.
وانتظرت..
ستُ ساعاتٍ تحديداً.
مرّت أمامي حالة العجوز المنهكة من كثرة الكحول، ففي فترة الأعياد في فرنسا، بعض العجائز يلجأن إلى الكحول للتخفيف من وحدتهنّ.
مرّ أمامي المشرّد الذي عارك الممرّضة قائلاً: "أعرف أنني سكران، هل تعتقدين أنّك اكتشفت الذرّة عبر فحصك نسبة الكحول في دمي؟"
مرّ أمامي العجوز الذي بقي ينادي على الممرّضين كي يدخلوه إلى الحمام، وهم يخبرونه أنّهم وصلوا مثانته بمبولة مباشرة.
لم ألحظ أية حالة خطرة.
كلّ الحالات تقريباً كانت ما نصفهه في لبنان بالدلع.
وأنا أنتظر...
يمرّون من أمامي، ينظرون إليّ ساكتة، يستغربون، ويكملون طريقهم إلى مريضٍ يصرخ. أدركت في الساعة الخامسة أنّ عليّ الكف عن التغريد عبر تويتر عن الإهمال في الطوارئ، كي أصرخ عبر حنجرتي داخل الطوارئ. فجأةً لم أعد المريضة الخفيّة، فجأة لاحظوني! وعدوني أن يراني الطبيب خلال أقل من ساعة.
أتى الطبيب. بدا لطيفاً جداً، متعاطفاً جدّاً، سألني كل ما سألوني إياه سابقاً ودوّنوه!! لماذا لا يقرؤون ببساطة الملف؟ أجبته. غاب وأتى بطبيبٍ آخر، طلب منّي الوقوف على كاحلي، ثم على رؤوس أصابعي. لم أنجح. فحكم أنّني أعاني من خدر في عرق النسا.
في تلك اللحظة أدركت مقلب الطوارئ. يعني قضيت ست ساعات أسمع صراخ المرضى، وأشمّ روائح نتنة، كي يؤكّد لي طبيبٌ موقّر تشخيصَ عامل هاتف الطوارئ. في مخيّلّتي قلبت السرير على الطبيب وقلت له "خدر بعينك". في الواقع، شكرت الطبيب بلطافة السيّدة التي تعلمك أنّك تنتظر على خط هاتف الطوارئ، ودّعته، وتركني مع الطبيب المتعاطف.
التعاطف ليس بالضرورة علامة جيّدة للطبيب. فبتعاطفه أقنعني أنني قادرة على المداومة بشكلٍ طبيعي يوم الاثنين، على الرغم من أنّه يجرّني جرّاً إلى سيارة الأجرة. وقال لي بقناعةٍ تامّة، أنّ العمل سيساعدني على استعادة الحركة. قال لي إنني شابّة، وأنّ قوّتي هي التي ستشفيني، مع بعض المسكّنات. أخجلني، وأقنعني بأن أضغط على نفسي.
كان التشخيص ناقصاً.. جداً!
العبرة الثالثة: كنت قد قرأت مقالاً يشير إلى أن المستشفيات في بريطانيا تعطي الأولوية للشباب في العلاج، وذلك لأن المسنّ في نهاية العمر. لكنّني أدركت أن الشباب قد يكون سبباً أيضاً للمماطلة في علاجك، وللاستهتار بحالتك.
العبرة الرابعة: أنت أدرى من الطبيب بقوّتك وبخطورة حالتك، فكما قال المسعف لا تخجل في طلب التدقيق والفحص، لك الحق في العلاج.
العبرة الخامسة: الصبر ليس دائماً مفتاح الفرج. في بعض الحالات، عليك بالـ "نقّ".
للعبرة الأولى والثانية، راجع التدوينة السابقة.
كم أكره الموسيقى التي يستخدمونها للانتظار. حتّى للطوارئ موسيقى انتظار. ردّ عامل الهاتف، سألني باقتضاب عن حالتي، أدرك أنّها طارئة لكن ليست بخطورة ما قد يكون قد طرأ على المتّصلين الآخرين. دعاني للانتظار. أحياناً لا أفهم صيغة التهذيب في الدعوات عندما لا يكون أمامك الخيار. موسيقى مملّة. كأنّ طفلاً يلعب ببيانو الكتروني. موسيقى مزعجة. مرّت خمس دقائق على الأقل. لم أكن مستعجلة، فلا يمكنني فعل أي شيء آخر بأي حال. مستلقية، أطالع السقف، على وقع الموسيقى المزعجة، وصوت السيّدة اللطيفة الذي يذكّرك كل دقيقة أنّك تنتظر على خطّ الطوارئ. وكأنّك قد تسرح في السقف، وتشرد، وتنسى مثلاً لماذا تعذّب نفسك وتستمع لهذه الموسيقى.
عاد إليّ المشخّص لحالتي الطارئة، سألني المزيد من الأسئلة، ليستنتج: "آآآه (بالفرنسية)"، هذه على الأرجح حالة خدر في عرق النسا. "سياتيك إيبرألجيك". طمأنني الاسم ساعتها، وطمأنتني نبرة الـ "آآآآآه"، والتي بدت وكأن ترجمتها في العامّية اللبنانية "ييي ولا شي ولو، ما تعتلي همّ وخليها علينا هالمرّة"، يعني بالعامّية المصرية "أيييوه، ياختي عليكي، دي ولا حاجة، أبلتك الطوارئ هنا وحتحلّ كلّ المسائل".
بعد التشخيص المطمئن، قال لي إنّه سيرسل لي سيارةَ إسعاف تنقلني إلى أقرب غرفة طوارئ! بعض المعاني تضيع فعلاً في الترجمة!
بعد ساعة وصل رجلا الإسعاف، مع كرسي نقّال. الأوّل، خمسيني العمر، والثاني عشريني. الاثنان لطيفان، لكنّ العشريني انهارَ (أقوى وقعاً من انهالَ) عليّ بالحديث عن اللبنانيين.
عندما تقول لفرنسي أنّك لبناني، يجيبك دائماً "أوووه، لبنان، كم أحبّ الطعام اللبناني.. شاورما، حمّص، تبّولة". تاريخنا كلّه (الفينيقي، واللبناني وما بينهما)، ومعمعاتنا السياسية، وحربنا الأهلية، تُختصّر بالحمّص والتبّولة، والشاورما.
ربما لذلك حاربنا بقوّة لتحطيم الأرقام القياسية لأكبر صحن حمّص، وجاطة تبولة.
رجل الاسعاف العشريني، كان يعرف أكثر من ذلك، ولم يتوقّف عن الحديث. ربما هي استراتيجية ليلهيني عن ألمي، أو ربما لأنّه فعلاً مهتم بالشأن اللبناني. المهم، بين التبّولة والوضع الأمني الحالي، فجأة وصلنا إلى صالة الانتظار في غرفة الطوارئ. وجودي هنا في تلك اللحظة، خفّض معدّل العمر لدى المرضى من ثمانين إلى سبعين عاماً. شعرت بالعجز. وشعرت أيضاً بالخجل. أنا الشابّة، أزاحم هؤلاء المسنّين، على مكانٍ في الطوارئ.
لكنّنا كلّنا نمرض، مهما كان عمرنا، وكلنا نحتاج للعناية، هذا ما قاله لي المسعف الخمسيني. ثم أخبرني أنّ حالتي على الأرجح هي عرق النسا، وأن الحل الوحيد هو الكثير من الراحة، والبقاء في الفراش.
عندما جاء دوري، وقّعت على الفاتورة، سلّمني للمرّضة، وتمنّى لي الصحّة والراحة.
أخذتني الممرّضة. معاينة سريعة، تحضير ملف، إسوارة الدخول، في أقل من خمس دقائق، ركَنَتْ سريري في نفق الطوارئ (في الداخل بعد المدخل، وبعد حاجز الممرضة).
وانتظرت.
وانتظرت.
وانتظرت..
ستُ ساعاتٍ تحديداً.
مرّت أمامي حالة العجوز المنهكة من كثرة الكحول، ففي فترة الأعياد في فرنسا، بعض العجائز يلجأن إلى الكحول للتخفيف من وحدتهنّ.
مرّ أمامي المشرّد الذي عارك الممرّضة قائلاً: "أعرف أنني سكران، هل تعتقدين أنّك اكتشفت الذرّة عبر فحصك نسبة الكحول في دمي؟"
مرّ أمامي العجوز الذي بقي ينادي على الممرّضين كي يدخلوه إلى الحمام، وهم يخبرونه أنّهم وصلوا مثانته بمبولة مباشرة.
لم ألحظ أية حالة خطرة.
كلّ الحالات تقريباً كانت ما نصفهه في لبنان بالدلع.
وأنا أنتظر...
يمرّون من أمامي، ينظرون إليّ ساكتة، يستغربون، ويكملون طريقهم إلى مريضٍ يصرخ. أدركت في الساعة الخامسة أنّ عليّ الكف عن التغريد عبر تويتر عن الإهمال في الطوارئ، كي أصرخ عبر حنجرتي داخل الطوارئ. فجأةً لم أعد المريضة الخفيّة، فجأة لاحظوني! وعدوني أن يراني الطبيب خلال أقل من ساعة.
أتى الطبيب. بدا لطيفاً جداً، متعاطفاً جدّاً، سألني كل ما سألوني إياه سابقاً ودوّنوه!! لماذا لا يقرؤون ببساطة الملف؟ أجبته. غاب وأتى بطبيبٍ آخر، طلب منّي الوقوف على كاحلي، ثم على رؤوس أصابعي. لم أنجح. فحكم أنّني أعاني من خدر في عرق النسا.
في تلك اللحظة أدركت مقلب الطوارئ. يعني قضيت ست ساعات أسمع صراخ المرضى، وأشمّ روائح نتنة، كي يؤكّد لي طبيبٌ موقّر تشخيصَ عامل هاتف الطوارئ. في مخيّلّتي قلبت السرير على الطبيب وقلت له "خدر بعينك". في الواقع، شكرت الطبيب بلطافة السيّدة التي تعلمك أنّك تنتظر على خط هاتف الطوارئ، ودّعته، وتركني مع الطبيب المتعاطف.
التعاطف ليس بالضرورة علامة جيّدة للطبيب. فبتعاطفه أقنعني أنني قادرة على المداومة بشكلٍ طبيعي يوم الاثنين، على الرغم من أنّه يجرّني جرّاً إلى سيارة الأجرة. وقال لي بقناعةٍ تامّة، أنّ العمل سيساعدني على استعادة الحركة. قال لي إنني شابّة، وأنّ قوّتي هي التي ستشفيني، مع بعض المسكّنات. أخجلني، وأقنعني بأن أضغط على نفسي.
كان التشخيص ناقصاً.. جداً!
العبرة الثالثة: كنت قد قرأت مقالاً يشير إلى أن المستشفيات في بريطانيا تعطي الأولوية للشباب في العلاج، وذلك لأن المسنّ في نهاية العمر. لكنّني أدركت أن الشباب قد يكون سبباً أيضاً للمماطلة في علاجك، وللاستهتار بحالتك.
العبرة الرابعة: أنت أدرى من الطبيب بقوّتك وبخطورة حالتك، فكما قال المسعف لا تخجل في طلب التدقيق والفحص، لك الحق في العلاج.
العبرة الخامسة: الصبر ليس دائماً مفتاح الفرج. في بعض الحالات، عليك بالـ "نقّ".
للعبرة الأولى والثانية، راجع التدوينة السابقة.
روعة كلسينا صحافية سابقاً في فرانس 24
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق