قال عنه مُعاصرُه ديدرو إنه يأتي في المرتبة الثانية في كل مجالات الفكر والإبداع. وقال عنه أعظم كتاب ألمانيا غوته مقارنا بينه وبين مُعاصره اللدود روسو: " مع فولتير نشعرُ أن الستار يُسدل على العالم القديم؛ أما مع روسو فنشعر أننا إزاء عصر جديد يولد ". وقد اعتبر الكثيرون من مؤرخي الفلسفة - بحق - أنه لم يتميز بالأصالة الفلسفية وأنه اكتفى بالترويج للتجريبية الأنجليزية وفيزياء نيوتن لا غير. وأعتقد، شخصيا، أن هذه الآراء لم تجانب الصواب. فقد كان الرجل كلاسيكيا في الأدب يرى الكمال في تقاليد التراجيديا الكلاسيكية المعروفة. والدليل على ذلك، مثلا، أنه استهجن "غرابة" الإنجاز الشكسبيري. كما أنه لم يكن صاحب فتح فلسفي كالذي مثله ديكارت أو لوك من قبله أو كانط من بعده بقليل. ولكنه، مع ذلك، كان أشهر شخصية جسدت روحَ "الأنوار " في فرنسا وأوروبا قاطبة. وربما لم يكن يأبه كثيرا بالإنجاز الفردي على مستوى الإبداع بقدر ما كان يهمه التنوير باعتباره روحا تسري في المجتمع وتخلصه من رواسب العصور المظلمة كالتعصب الديني واللاتسامح والاضطهاد والخرافة. جاء في إحدى رسائله: " إن عصرًا مُستنيرًا أهم بكثير من عصر مُظلم يعرف ظهورَ بعض العبقريات الفردية". هذا ما جعل منه مناضلا شرسا من أجل التنوير والحقيقة والعدالة والتسامح في عصر شهد الكثير من صور الاضطهاد الديني والتعصب. وكأن فولتير، هنا، كان يحدد مهام المثقف ويحصرها في العمل من أجل التقدم والازدهار الإنساني العام لا في الإبداع الذي يبقى شأنا فرديا. فإذ كان هم الفنان هو العمل الفني، فإن قضية المثقف هي الإنسان.
هذا أيضا ما يدعوني، شخصيا، إلى التأمل من جديد في مسألة تحديد لحظة ميلاد المثقف بالمعنى الحديث. وربما وجدتني أذهبُ مذهب من يعتبرُ فولتير - لا إميل زولا - أول مُجسد لصورة المثقف بالمعنى المُتعارف عليه اليوم. فقبل تدبيج "إني أتهم " العام 1898 والذي اعتبره الكثيرون شهادة ميلاد المثقف باعتباره بيانا تصدى فيه زولا لقيادة الأركان الفرنسية مُدافعا عن الضابط درايفوس المتهم ظلما بخيانة بلده لأسباب عنصرية؛ كان فولتير - قبله بأكثر من قرن - يتدخل في الشأن العام، أيضا، بصورة جسورة وشجاعة وهو يرافع من أجل كشف حقيقة اتهام الأب كالاس بقتل ابنه ظلما وعدوانا لأنه كان بروتستانتيا ليس على دين الأغلبية الكاثوليكية في فرنسا. وقد توج هذا النضال، كما هو معروف، برسالة فولتير الشهيرة "رسالة في التسامح" وبإعادة الاعتبار لكالاس ولو بعد إعدامه. هذا النضال هو ما صنع صورة فولتير التنويري المدافع عن حقوق العقل وعن التسامح وعن قيم التقدم والحرية والحقيقة. إنه صورة نموذجية للإنسان الحديث لم ينل منها تعاقب الأيام بعد. فولتير في كلمة: الولادة المشهدية للمثقف الحديث.
-------------------------
-------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق