"تيانو" عزلة الأرض البعيدة.
عار الكولونيالية من التمييز العنصري إلى استغلال الإنسان وموارده واحتلال أراضيه.
رواية تاريخية كتبت في زمن الحجر ، تعود بنا إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ،تستند على وقائع صنعتها أحداث تلك الحقبة ، بين 1871و 1879 فتجعل من التاريخ جسرا يصل الحاضر بالماضي اسقاطا ، كما تقحم شخوصا من المخيال تتحرك في الزمان والمكان مع شخصيات تاريخية.
تنقلكم الرواية عبر رحلة بحرية لشهور في عرض البحار والمحيطات ، رحلة إلى المنافي البعيدة في كاليدونيا الجديدة ، لبرحل صوت الكلمة الحرة للمبعدين من كيمونة باريس بعد انهزام فرنسا في حربها مع بروسيا و نهايتها بالاف الأسرى بينهم نابليون الثالث،،وجهة كذلك لمئات المنفيين الجزائريين على خلفية ثورة المقراني في نفس الفترة من 1871 رواية تسلط الضوء على ظروف الابعاد والقهر، ومدى وحشية البيض في إبادة السكان الأصليين واستغلال مواردهم وثرواتهم ، وقمع مقاومة الكناك سنة 1878،رغم هذا كله لا تخلو المشاهد من نفحات الحب والإنسانية ، وأن تظل أصوات المبعدين تصدح بالحرية وقيم الإنسان في هذه الاقاصي البعيدة من جزر المحيط الهادي.
تيانو عزلة الأرض البعيدة، بدارين واحدة جزائرية وأخرى مصرية ستكون بين يدي القراء .
مقطع من الرواية
ظلت عَيْنا "تيانو" معلقتين بيوسف طوال الحفل. فلم تكن "عزلة الأرض البعيدة" إلا مرادفا لمعنى اسمها لفظا، بينما كانت في الواقع وَطَن أنثى يفتح أحضانه بلا أدنى شرط للانتساب ، فطرة الإنسان التي انفلتت من قوالب الترويض والتلقين ، تدغدغ المشاعر وتبسط أشرعة الألفة للإبحار في النفوس، فتجاوب معها ، بعد أن ظل لا يعرف كيف يلوذ بعينيه عنها خجلا ، لفرط ما حرصت على لفت انتباهه وقد شَدَّهَا عنفوان شبابه، وبشاشة وجهه بعينيه الحالمتين،ولا أحد يمكنه أَن يُجْهض خِيَارَهَا في القبيلة وقد أَبَاحَهُ الْعُرْفُ ، وتظل "تيانو" أقرب للملكة" كانيدجو" وزوجها الزعيم "كاويني فنديغو" ، فهي في منأى عن أي معارضة لرغبتها ،فكان لها أن تقيم مأدبة على شرفه بطبق "بوغنا" الذي يُعَدّ لِلضُّيوف المُبَجَّلِين ، فَيُطْهَى في مِرْجَلٍ على أوراق الموز ، بمكوناته من درنات وخضر ولحوم، وأسماك وحليب جوز الهند،كما أخذت بين يديها منحوتة من الخشب ربطت إلى حبل رُصِّع بالأصداف، حلية و عملة متداولة ،وهدية ثمينة يتبادلها أعيان العشيرة فيما بينهم ، سلمتها له وهي تقول :
-« إنها من ممتلكات العائلة تعود إلى زعيمنا الكبير "كوا فيدكو"، أهدتني إياها" كانيدجو"» .
علم يوسف من "تيانو" أنها لا تعرف مصير والديها، فقد اختطفهما بحارة في عز شبابهما ،وتعتقد أنهما نُقِلا إلى جزيرة "فيجي" وبيعا هناك للعمل في حقول القطن وقصب السكر، وما راحت تسترجعه من ذاكرتها مجرد أكليشيهات باهتة لعملية اختطاف، أين تُرِكتْ بين الأشجار تجهش بالبكاء،ليكَفلَهَا "واكومي" الوصي على"كانيدجو"، فتربت معها في بيته ، وكانت تكبرها بسبع سنوات.
كان يستمع إلى قصتها بتأثر كبير ، فهو أقرب لمعنى الإحساس بالفقد الذي يفوق وجع الموت ، ومقدار الألم الذي يلم بكل من قست عليه الحياة ،حين تزج صرخة الميلاد بوجوده في تناقضات الدنيا ليحدثها قائلا:
-« إن هؤلاء الذين يكتمون أنفاسكم في هذه الجنة ، ويستغلون ثرواتكم ، ويستبدون أحراركم ، هم أنفسهم الذين غزوا بلدنا في مغرب الشمس ، ورحلونا إلى هنا ، حين حاربناهم ».
-هل هي بعيدة جدا كما يقال؟
- «هي بعيدة أكثر مما تتصورين ، مسافة شهور من الإبحار لم يبق لي فيها سوى قبرين ، أم لم أعرفها في حياتي ، وأب فقدته قبل أن يشتد عودي، هوى عليه جرف أثناء مد سكة للحديد ، وهو يكابد شظف العيش بأجر زهيد ».
كانت الشمس تنحدر نحو الغروب وراء قامات الصنوبر السامق، فاستحال الماء عند الشاطئ إلى لون قرمزي ، واستسلمت الجزيرة إلى سكون مُلْهِم ، عدا صخب الموج المتواتر . وقفت"تيانو" وهي تضع كَفَّيْهَا على كتفيه ، اقتربت أكثر لتحس بأنفاسه الحارة ، فهوى على شفتيها النَّهِمَتَيْن ، ينهل منهما شهدا عسليا ، غير معلن عن نية الاكتفاء ، ثم سارع عائدا إلى القرية بخفة فراشة.
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق