لغت شهرة المكتشف العظيم " لويس باستور" درجة جعلت اسمه يتردد على كل لسان في جميع أنحاء العالم . فهو أول من كشف عن وجود الجراثيم التي تملأ الهواء الذي نتنفسه وبذلك اهتدى الطب إلى معرفة حقيقة الأسباب العديدة للأمراض والأوبئة . ولد "باستور" في مدينة " دول " الفرنسية يوم 27 ديسمبر 1822 ، ولما كان عمره أربع سنوات ، ولما انتقل والده إلى مدينة "اربوا" وهناك تلقى " باستور" تعلمه الابتدائي .وفي سنة 1838 أوفده أبوه إلى باريس ليتابع دراسته ،
إلا أنه سرعان ما غدا طريح الفراش ،إلى بلده إلى مراسلة أبيه يتوسل إليه أن يرجعه إلى " اربوا " وما إن استعاد نشاطه وتحسنت صحته حتى التحق بكلية "البيزانسون " ونال منها سنة 1840 شهادة البكالوريا . ثم تابع الدّراسة فيها حتى نال بعد عامين شهادة البكالوريا في علوم الكيمياء . و لعلّ رائحة " الدّباغة " هي التي جعلته يفضّل الإمعان في " المختبرات " للتّفاعل الكيميائيّ ، فهو على شغفه بالرّسم كان بالكيمياء أولع ، إذ كان في صغره يحب رسم الأشجار والزهور والحيوانات والمناظر الطّبيعيّة يعايشها ،و يعتقد أنّه سيصبح فنّانا عظيما يوما ما . إلاّ أن الغرفة التي اتخذها في داره مختبرا ، على صغر مساحتها ، أخذت منه كل أوقات فراغه وسلبت منه كل الهوايات إلا حب علم الفيزياء والكيمياء حتى أنه خرج ذات يوم من محاضرة يقول : ما أجمل "الكيمياء " . ولولا قدرته على التركيز في ملاحظات دقيقة لما شغف " باستور" بعلم الكيمياء . فقد كان كثيرا ما يسأل نفسه لماذا يتعفن الطعام إذا بقي في الآنية وقتا طويلا ؟ ولماذا يحمض اللبن ؟ و لم يكن أحد في العالم يعرف جوابا لهذه الأسئلة ، ولم يكن أحد يهمّه أن يعرف ، ولكن "باستور" اهتم بمثل هذه المسائل وفكر فيها طويلا ، و كان في البداية يلتجئ إلى مختبره و يحاول أن يعرف الجواب عن طريق المحاولة . كان مختبره في بيته و قد صفف فيه القوارير والأنابيب الزجاجية ، و مصابيح الاشتعال وفيه بعض أوعية اللبن و فواضل الطعام و القاذورات و في وسط كل ذلك كان يمضي باستور ساعات طويلة في كل يوم غير مبال بهندامه ما هي نتيجة هذه المحاولات المتعبة و المعقدة ما فائدته منها و ما هي الفائدة التي ستحصل للنّاس ...؟ لا أحد يدري ذلك و لما بلغ الثّامنة عشرة من عمره ، عين مساعدا لأستاذ رياضيات ، وفي سنة 1859 أصبح مديرا للمعهد الذي تخرج منه ، وهو الذي أجرى فيه أولى أبحاثه الرائعة ، وواصل اهتمامه الكبير بأسرار علوم الفيزياء و الكيمياء ، ونشر وهو في السادسة و العشرين من عمره أفكاره و نظرياته الشهيرة الخاصة بمجال البلورات .
ونتيجة لأبحاثه هذه ، عين مدرسا للكيمياء في أكاديمية " ستراسبورغ " وهناك تزوج من "ماري لوران " ابنة عميد الأكاديمية وكانت معاونة مخلصة له في أبحاثه ،فاشتدت حماسته ورغبته على المزيد من الأبحاث العلمية الأخرى .وفي سنة 1854عين "باستور "في الثانية والثلاثين من عمره عميدا لكلية العلوم الجديدة في مدينة " ليل "، وظل يواصل أبحاثه تحدوه رغبة في معرفة الإجابة المنطقية على عدد من الأسئلة التي كان ألقاها على نفسه ذات يوم . وآلت أبحاثه عن حقيقة التخمر إلى أعظم اكتشافاته وهو "إن في الهواء أحياء لا تقع عليها العين " نسميها جراثيم أو ميكروبات .وكان العلماء قبل عهد " باستور "يعتقدون بأن "التخمر" وما يتبعه ما هو إلا تفاعل كيميائي ذاتي إذ ما كان شائعا في أواسط القرن الماضي بين معظم العلماء هو نظرية تعرف بالتوالد الذاتي وأن السبب الحقيقي للتخمر والتعفن هو مخلوقات صغيرة لا نراها بالعين المجردة تعيش في الهواء وهي دائما موجودة فيه ،وبفضل اختراع المجهر" الميكروسكوب " أمكن للعلماء أن يعيدوا النظر في نظرية التوالد الذاتي " وكان في مقدمة الباحثين " لويس باستور " تبين له خطأ تلك النظرية بعد تجارب أجراها ومن أهمها التجربة التالية : ملأ" باستور " زجاجتين ذات عنق ممتد رفيع يطلق عليه اسم حرف (u) بسائل متخمر وبعد ذلك وضع هذا السائل على النار حتى غلى لمدة معينة مكنت من قتل الجراثيم الحية ، ثم سد الزجاجتين أثناء غليان السائل وتركهما حتى زالت حرارتهما ، وأتى بالزجاجتين وكسر عنق إحداهما في مكان محصن لا يتسرب إليه الهواء الممتلئ بالجراثيم ، وبعد أن ترك الزجاجة برهة من الزمن على هذه الحالة سدها من جديد ولكنه لم يلاحظ تخمرا ولا أثرا من آثار الجراثيم التي شاهدها في الزجاجة الأولى " . وكان ذلك على أن الأوكسجين وغيره من الغازات لا يولد شيئا آليا في السائل إلا إذا كان هو نفسه محملا بالأجسام الحية . وفي سنة 1864 استطاع " باستور " أن يثبت أن كل كائن مهما صغر حجمه لا بد أن ينشأ من أبوين حيين ، كما أثبت أن عملية التخمر عملية حيوية تشترك فيها أحياء دقيقة تنشأ من أجسام تتوالد وتتكاثر في المحاليل السكرية، فتتحول إلى كحول وثاني أكسيد الكربون . وكانت هذه الحقيقة نتيجة عظيمة ذات تأثيرات كبرى في علوم الحياة ولكنهما في الوقت نفسه كانت مثار سخط العلماء في ذلك العصر وقال عنه البعض " لقد جن باستور " ولا شك . ولكنهم لم يلبثوا أن آمنوا باكتشافه بعد أن أثبت لهم أن هناك جراثيم لا هوائية ،
أي أن هناك كائنات دقيقة تعيش بمعزل عن الهواء أو أن الهواء يقتلها. وقد اهتزت الأوساط العلمية لهذه الاكتشافات الرائعة وعين على إثرها " باستور " عضوا في أكاديمية العلوم وهو في سن الأربعين وقد أثبتت كشوفا ته أن للجراثيم أنواعا شتى وهي التي تنقل الأمراض وتنشر الأوبئة كالكوليرا والتيفود والتيفوس والحمى الصفراء والملا ريا ... وكان اكتشافه لهذه الأنواع من الجراثيم وغيرها سببا لاختراع المطهرات التي تقضي على الجراثيم وتمنع أذاها... ويمكننا أن نتصور أثر هذا الاكتشاف في العمليات الطّبيعية الجراحية والولادة ، لقد كانت هذه العمليات تعني الموت في أغلب الحالات وكان الناس قبل هذا العهد إذا قاموا بجراحة لمريض يصبون على جرحه الزيت المغلّى ليحفظوه من التعفن في حين أن العمليات اليوم وبفضل " باستور " تكاد تنتهي دائما بالصحة والعافية بعد القيام بتعقيم أدوات الجراحة وقتل الجراثيم الموجودة في الهواء قبل بدء العملية حتى لا تصاب الجروح بالتعفن ... وقد أصبح التعقيم والتطهير واسع النطاق في العصر الحاضر قبل العمليات الجراحية كما تستعمل طريقة التعقيم في إنتاج المحفوظات الغذائية التي تصبر لوقت طويل ثم كشف "باستور " عن أشياء أخرى في الأحياء الدقيقة فعرف أشكالها وتركيباتها ودرس دورة حياتها فكان فلهذه الاكتشافات أثر بالغ في تقدم علم الجراثيم. كما وفق في أن يجد في الأجسام مناعة ضد الجراثيم و بذلك كان أول من توصل إلى تحضير الأمصال في المعامل فأحضر مصل كوليرا الدجاج ومصل مرض الماشية وغيرها من الأمصال التي أنقذت الإنسانية من ويلات الأوبئة الكثيرة. وقد نشأت من تجاربه كل أنظمة التلقيح الحديثة ضد معظم الأمراض . وفي سنة 1881تمكن " باستور " من السيطرة على جرثومة " مرض الجمرة الخبيثة " وهي حمى كبيرة تصيب الأغنام والأبقار وقد تنتقل منها إلى الإنسان . وبعد أن روض هذه الجرثومة و أضعف ضراوتها بدأ يحقنها في أغنامه على مراحل فكانت أغنامه تعتل ثم تشفى إلى أن استطاعت مقاومة كميات من الجراثيم تكفي لقتل فيل ضخم. و عندما أعلن "باستور" عن اكتشافه الجديد سخر منه البعض و اقترح عليه البعض الآخر أن يقوم بالتجربة أمامه فقبل "باستور" هذا التحدي، ووضع تحت تصرفه خمسين شاة فلقح خمسة و عشرين منها ضد " الجمرة الخبيثة" و ترك البقية دون تلقيح و بعد أيّام حقن الخمسين شاة بكميات كبيرة من جراثيم هذا المرض المعدي و قال إثر ذلك :"إن المجموعة الثانية من الغنم التي لم تلقح في الأول ضد" الجمرة الخبيثة " سوف تموت حتما عن بكرة أبيها ،وأن الأغنام الملقحة ضد الجمرة ستبقى حية . وفي يوم 2 جوان 1881 وهو اليوم المتفق على أن يجتمع فيه أنصار " باستور" ومعارضو أفكاره في المزرعة التي تمت فيها التجربة لمعاينة النتيجة تواجد مع الحاضرين حشد كبير من العلماء والأطباء وما إن شاهد الجميع الأغنام التي لم تلقح في المرة الأولى ميّتة كلها في حين عاشت الأغنام الملقحة حتى هتف خصوم " باستورمهللين معترفين له بعلمه وعبقريته. ومنذ ذلك اليوم المشهود ، تحول اهتمام " باستور " من مرض الماشية إلى موضوع أكثر خطورة وهو مرض الكلب " الذي رآه مصدر ذعر الناس لأن من يصاب بهذا المرض لا تمهله الموت أكثر من أسبوعين أو ثلاثة ،بعد أن يكون قد عاش آلاما فظيعة ، وأدرك " باستور " أن الجهاز العصبي للحيوان هو المقر الملائم لحياة هذه " الجرثومة " وتكاثرها و الاحتفاظ بها حية قوية . وأمكن لباستور الاحتفاظ بعينة منها وأخذ يفكر في ترويض هذه الجرثومة الضارية ، وبعد تجارب وبحوث اهتدى إلى نزع جزء من نخاع العمود الفقري لأرنب قتله مرض الكلب ، ومن هذا النخاع حقن كلابا سليمة فلم تمت. فتساءل "باستور":"هل اكتسبت هذه الكلاب مناعة ضد هذا المرض" ؟ وعزم على حقن تلك الكلاب التي سبق تلقيحها بجرثومات ضعيفة، بجرثومات المرض النشيطة و القوية. و أخذ كلابا أخرى لم يقع تلقيحها من قبل... ثم حقن المجموعتين بالمكروب العادي النشيط، و قد تعرض في سبيل البحث عن علاج لهذا المرض إلى عدة أخطار لأنه اضطر إلى الاحتفاظ بعدد من الكلاب المريضة لإجراء تجاربه عليها وكان من الممكن أن يصاب هو نفسه بهذا المرض في أي لحظة.و بعد بضعة أيام من التجارب وجد "باستور" نفسه أمام نتيجة رائعة.إذ وجد أن الكلاب التي سبق تلقيحها بجرثومات ضعيفة لم يصبها المرض بينما أصيبت الكلاب الأخرى بالداء وكان النصر حليفه وتحصل على ما توقع. واستدعى "باستور " المعنيين بالأمر من علماء وأطباء ، ليطلعوا على تجاربه فتألفت لجنة من الخبراء وقررت أن لقاح" باستور " يحصن الكلاب ضد " مرض الكلب " ، فلا يصيبها أبدا . وأدرك " باستور " خطورة الخطوة القادمة التي يعتزم القيام بها هذه المرة فهو ينوي أن يتعامل مع البشر ، وأقل خطإ في محاولته القادمة معناه قتل بعض الناس ... فاحتار في أمره في البداية وفكر في حالة المرضى ، وهم يقضون نحبهم في تلك الآلام المبرحة ، والعلاج بين يديه لا يجرؤ على استخدامه وأقدم على القرار الحاسم ، فكتب إلى تلاميذه وأنصاره يُنْبِئُهُمْ بنيَّته وهي تجربة اللقاح على نفسه . وقبل أن ينفذ قراره في صباح يوم 6 جويلية سنة1885 قدمت إليه سيدة من أرياف فرنسا باكية تقود ابنها البالغ من العمر تسع سنوات وقد عضه كلب " مسعور " منذ يومين في عدة أماكن من جسمه الضعيف . وراحت الأم تتوسل إليه راجية منه ابنها بلقاحه الجديد . ولم يتردد " باستور " في تجربة اللقاح في جسم الطفل ، فكان الجسد البشري الأول الذي يحقن بذلك المصل . وتمت التجربة من غير أن تظهر عليه أية علامة من علامات الخطر .. وعادت الأم سعيدة بسلامة ابنها ، يتلعثم لسانها من كثرة عبارات الشكر والثناء وفي ذاك الحين " باستور " لم يكن مرتاحا عند تجريب المصل في أول إنسان بل ظل يفكر طويلا قبل أن يشرع في حقن الإنسان لأن هذا اللقاح لم يكن مثل ما سبقه من لقاحات أخرى وكان خائفا عن حالة الطفل . وبعد أيام نشر خبر نجاة الطفل وأن"باستور " كان سببا في هذا الحدث . فألزم على "باستور" العمل ليلا نهارا "
وكان "باستور " يضرب إبرته في جلودهم ونخوة الفخر ونشوة النصر ينسيانه كل تعب . وكان من بين الذين أقبلوا طلبا للعلاج سبعة عشر روسيا أصيبوا بالمرض ، ونجح " باستور " في شفاء ستة عشر منهم ، فقدم له قيصر روسيا إعانة مالية اعتمدها في إنشاء معهد " باستور " الأول في باريس كمركز لإنتاج اللقاح من مرض الكلاب المسعورة وللأبحاث الطبية . وفي العالم اليوم أكثر من ستين مؤسسة تحمل اسم هذا العبقري من بينها مؤسسة تونس . وبعد هذا الحدث السعيد ، أسرع الأطباء من كل مكان إلى الاستفادة من هذا الاكتشاف العظيم وكان من أثر ذلك أن نسبة الموت بمرض " سعار الكلاب " قد انخفضت في جميع أنحاء العالم إلى نسبة 1. وظل "باستور " خلال سنوات حياته التي تلت ذلك النصر العظيم يواصل أبحاثه إلى أن أنهكت قواه وأصيب نصف جسمه الأيسر بالشلل ، وبالرغم من ذلك فقد استمر يعمل حتى توفي يوم 28سبتمبر 1895 وعمره 72 سنة ونيف فانطفأت بذلك شعلة عالم حقق أعظم إسهام في تاريخ الطب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق